السينما الفلسطينيّة الجديدة: صورة البطل ودلالاته | فصل

كتاب «السينما الفلسطينيّة الجديدة: صورة البطل ودلالاته»

 

صدر عام 2021 كتاب «السينما الفلسطينيّة الجديدة: صورة البطل ودلالاته» عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع» للإعلاميّة والباحثة السينمائيّة آلاء كراجة، ويبحث الكتاب في دلالات البطولة في السينما الفلسطينيّة الجديدة ويهتمّ بتحوّلات الإنتاج السينمائيّ، وإلى مدى حاكت هذه التحوّلات المجتمع الفلسطينيّ بانعطافاته المختلفة، من خلال ما طرأ على صورة البطل في هذه السينما من تحوّلات ودلالاتها الاجتماعيّة السياسيّة العميقة. إضافة إلى بحثه في تأثير «اتّفاق أوسلو» على المنتج السينمائيّ في سياق سياسة التمويل المشروط والمشاركات العالميّة للأفلام الفلسطينيّة، ومدى ارتباطها بشبكات الإنتاج المعولمة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتبة.

 


 

ما تشهده السينما الفلسطينيّة في الوقت الراهن، من حراك وتطوّر على مستويات عدّة، وخاصّة في شقّها الدراميّ، يطرح ضرورة البحث في الجوانب والعوامل المختلفة الّتي أسّست لنشوئها ثمّ تطوّرها ووصولها إلى ما يعرّفه هذا الكتاب بـ ’السينما الفلسطينيّة الجديدة‘. لطالما كانت السينما الفلسطينيّة انعكاسًا للواقع الفلسطينيّ المعاش وأزماته المتعاقبة. فقد تابعت الأفلام الفلسطينيّة الحديثة الهمّ الوجوديّ للشعب الفلسطينيّ، كما اهتمّت بتفاصيل الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة، وعكست وعيًا متناميًا في قوّة الصورة لدى السينمائيّين الفلسطينيّين، وتطوّرًا لافتًا في توظيفها في قوالب فنّيّة استطاعت الوصول إلى العالميّة.

من هذا المنظور وعبر دراسة مجموعة من الأفلام الجديدة، يبحث هذا الكتاب في صورة البطل الفلسطينيّ ودلالاتها، ودور المخرج ودلالات المنتج الثقافيّ، ويهتمّ ببحث تحوّلات العمل السينمائيّ، وإلى أيّ مدى عبّر هذا العمل عن المجتمع الفلسطينيّ بانعطافاته المختلفة. كما يبحث الكتاب في كيفيّة ظهور البطل في صورة فنّيّة مؤثّرة قد تكون صادمة وسلبيّة؛ فقد يكون البطل أو الشخصيّة المركزيّة على الشاشة الكبيرة، الشهيد أو العاشق أو حتّى ’العميل‘ – ذلك الشخص الّذي أُصيبَ بلحظات انكسار وضعف - أو فلسطينيًّا فقد التماس مع واقع النضال السياسيّ وصار هو ذاته موضوع اتّهام بالتعايش مع الاحتلال، أو فقدان الأمل بزواله.

 

من البطل إلى العاديّ 

إنّ التيّارات السائدة، تبعًا لما يجادل به عبد الرحيم الشيخ والعديد من النقّاد، وقعت في تناقض تفكيك البطل، وتحويله إلى ’إنسان طبيعيّ‘ تحت الاحتلال؛ حيث أنّ الأبطال الجدد لم يتمكّنوا من إنهاء الاستعمار الصهيونيّ لفلسطين كي تصير حياة الفلسطينيّين طبيعيّة. في هذا السياق، يقول الشيخ: "تبرز صورة جديدة للبطل الفلسطينيّ، كشخصيّة تتوسّط شخصيّتي البطل والوغد، لا يتحلّى بصفات البطولة التقليديّة من شجاعة وإقدام وإيثار وتراجيديّة مصير أو مجد، وإنّما له سمات إنسانيّة عاديّة تختلط فيها الفضائل والرذائل على نحو ’طبيعيّ‘". يختبر هذا الكتاب هذا التحليل النقديّ في المنتج السينمائيّ الجديد، وتُخْتَبَرُ ثيماته وتناوله للتناقضات الّتي يعيشها الفلسطينيّ، بما فيها تناول الأسئلة المطروحة حول مدى نزوع أفلام السينما الفلسطينيّة الجديدة إلى التطبيع مع الاحتلال.

يبحث الكتاب في صورة البطل الفلسطينيّ ودلالاتها، ودور المخرج ودلالات المنتج الثقافيّ، ويهتمّ ببحث تحوّلات العمل السينمائيّ، وإلى أيّ مدى عبّر هذا العمل عن المجتمع الفلسطينيّ بانعطافاته المختلفة

تُعنى الدراسة بظاهرة السينما الفلسطينيّة الجديدة منذ الانتفاضة الثانية، وتتبّع علاقتها بالتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة الجذريّة الّتي حصلت بعد «اتّفاق أوسلو» (1993)، الّذي وُقِّعَ بين إسرائيل و«منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، وما لحق بهذه الفترة من تغيّرات جذريّة على مختلف المستويات الفلسطينيّة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ومقاومةً. تشمل عيّنة الدراسة مجموعة من الأفلام الّتي أعطت دلالات جديدة لصورة البطل، وأثارت نقاشًا عامًّا أو نقدًا، وتركت بذلك أثرًا على المستوى الثقافيّ والسينمائيّ في فلسطين وخارجها، ومنها أفلام رُشِّحَتْ وفازت بجوائز عالميّة، وأثار ترشيحها جدلًا حول هويّتها ومعناها السياسيّ.

يعود سبب اختيار هذه الحقبة التاريخيّة لكونها مرحلة مفصليّة، ولها تداعيات جوهريّة ومصيريّة على فلسطين والفلسطينيّين والقضيّة الفلسطينيّة، إثر تحوّل «اتّفاق أوسلو» إلى أداة سيطرة وإدامة للاحتلال الاستيطانيّ الإسرائيليّ، وظهور طبقة وثقافة نيوليبراليّة فلسطينيّة وشبكة مصالح ضمن الواقع الجديد. السؤال السينمائيّ المرتبط في هذا الواقع هو حول التأثير الّذي أوجده على الثقافة والمنتج السينمائيّ، وما إن كان هذا المنتج قد وقع أسير تكريس الواقع أو وصفه بشكل غير مقلق. أم أنّه تمكّن من طرح إشكاليّاته بقوّة جذبت الجمهور وحاكت ما اختلج في وجدانه من أسئلة ومشاعر صعبة.

في المقابل ومن ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين مثل جميل هلال الّذي وصف حقبة أوسلو والواقع الجديد الّذي أنشأته بأنّها مرحلة تفكّك وتشظّي الحقل السياسيّ الفلسطينيّ، لكنه أشار في المقابل إلى بروز الحقل الثقافيّ الفلسطينيّ بما يتجاوز التشظّي وبما من شأنه أن يساعد في توليد حقل سياسيّ جديد[1]. في هذا السياق، يُلَاحَظُ بروز نشاط سينمائيّ فلسطينيّ جديد أصبح موضع نقد وجدال حول القضايا الوطنيّة الّتي يطرحها، رغم أنّه يشير إلى الوحدة الفلسطينيّة إلّا أنّه لا يخلو من التوتّر. فهو يجذب أحيانًا الهجوم والاستنكار، بوصفه مكرّسًا لضياع البوصلة النضاليّة، ولا يخلو من الاحتفاء المبالغ به أحيانًا أخرى، بوصفه تعبيرًا عن وصول الفلسطينيّ إلى العالميّة وقهره، عبر النجاح الفرديّ، لمعوّقات القمع الجماعيّ الّتي يعيشها. فما هو الأكثر صوابًا؟ ستحاول هذه الدراسة من خلال تحليل مضامين جملة من الأفلام الّتي استثارت مثل هذا النقد محاولة تقديم إجابة على هذا السؤال. 

 

بين السياسة والسينما

بيد أنّ الإجابة الّتي يحاول التأمّل والنقاش الوصول إليها ليست من قبيل إطلاق الأحكام القيميّة السريعة، بل من قبيل الوصف والتحليل للعلاقة المركّبة بين الفنّ والسياسة. بمعنى آخر، تسعى الدراسة لتوضيح العلاقة بين السينما الفلسطينيّة كحقل فّنّيّ وبين موقعها في الحقل السياسيّ. لتتّضح هذه العلاقة بشكل جليّ لا بدّ من النظر في السياق التاريخيّ لنشأة وتطوّر السينما الفلسطينيّة، الّتي ارتبطت عن قرب بنشأة الثورة الفلسطينيّة مع تكوين «منظّمة التحرير» في ستّينيّات القرن الماضي. من هذا المنظور، تفترض أنّ ثمّة علاقة جدليّة تاريخيّة بين الحقلين المذكورين؛ ففي حين أنّ النشأة الأولى للسينما - ومجمل المنتج الثقافيّ الفلسطينيّ المعاصر - كانت جزءًا لا يتجزّأ من برنامج عمل نضاليّ، ظهرت لاحقًا نزعات لرسم حدود واستقلاليّة للسينما عن برامج العمل السياسيّة، وتجلّى ذلك مع بروز المخرج كفاعل ثقافيّ مستقلّ وانعكس ذلك في ظهور صور جديدة للفلسطينيّ كبطل. دفعت هذه الاستقلاليّة نحو التعبير الفنّيّ المكتمل بحذر وتريّث وابتعاد عن برامج العمل السياسيّ المباشر. إلّا أنّ السينما بدأت من خلال هذه الخطوة بالذات تتبلور بوعي منتجيها وجمهورها ونقّادها، كفنّ وكصناعة، على أنّها رسالة وممارسة سياسيّة بامتياز وإن لم تكن نضاليّة مباشرة كما في السابق، وعادت لتقرأ مضامينها وسياسات إنتاجها كإشكاليّة سياسيّة ثقافيّة تؤدّي أدوارًا بالنيابة عن النضال السياسيّ.

عليه سيجري تتبّع المراحل التاريخيّة الّتي مرّت بها السينما الفلسطينيّة، منذ البدايات الّتي ارتبطت بسينما الثورة والنضال، إلى سينما البحث عن شظايا البطولة. كما تبحث الدراسة في ثلاثة مستويات وترابطاتها: أوّلًا، الاهتمام بالتجربة الجماليّة في السينما الفلسطينيّة الجديدة كجزء من البحث عن المجال الجماليّ باستقلال عن الرسالة السياسيّة؛ ثانيًا، المقولة أو الرسالة السياسيّة المباشرة أو المضمّنة من خلال صورة البطل؛ ثالثًا، عمليّة الإنتاج الفنّيّ وشبكات التمويل وترويج الأفلام عالميًّا وإقليميًّا وما يترتّب عليها من شروط سياسيّة تحدّ أو تحدّد المضمون السياسيّ للعمل الفنّيّ.

لقد أبرزت الأعمال السينمائيّة الّتي قدّمها مصطفى أبو علي عام 1968 ورفاقه من مؤسّسي السينما الفلسطينيّة الثوريّة الفلسطينيّ ’الفدائيّ‘ كرمز، (...) خلال العقدين الماضيين بدأت هذه الصورة بالتحوّل مع جيل جديد من المخرجين...

لقد أبرزت الأعمال السينمائيّة الّتي قدّمها مصطفى أبو علي ورفاقه من مؤسّسي السينما الفلسطينيّة الثوريّة الفلسطينيّ ’الفدائيّ‘ كرمز، وذلك في عام 1968 حين أسّس مع  سلاف جاد الله، وهاني جوهريّة قسم التصوير الفوتوغرافيّ التابع لـ «حركة فتح» وكان مقرّه في عمّان، وكان ذلك على حساب تفاصيل الحياة والتجارب الفرديّة للفلسطينيّين. لكن وخلال العقدين الماضيين بدأت هذه الصورة بالتحوّل مع جيل جديد من المخرجين، وفي مقدّمتهم إيليا سليمان مع فيلم «سجلّ اختفاء» عام 1998. فقد أظهروا للسطح تناقضات الحياة اليوميّة وتعقيداتها من خلال تجارب ذاتيّة تتجلّى فيها انعكاسات الهمّ الوطنيّ. فظهرت لدينا سينما ترصد إنسانيّة الفلسطينيّ بخيره وشرّه وبأخطائه وضعفه، وتحلّل شخصيّته النفسيّة والسلوكيّة ونتيجة معاناته، فهو إذن ليس بطلًا ولا ضحيّة مطلقَيْن، بل إنسان أوّلًا. فالبطل الخارق مجرّد حلم على طريقة «يد إلهيّة» (2002) لإيليا سليمان، أو كما في «الجنّة الآن» (2005) لهاني أبو أسعد؛ حيث البطل ضعيف ومستعدّ للاعتراف بضعفه البشريّ[2]. السؤال المركزيّ الّذي يبحث فيه هذا الكتاب هو كيف نقرأ هذا التحوّل؟ هل هو ’نضج‘ ثقافيّ فلسطينيّ؟ أو ضياع للبوصلة السياسيّة في خارطة النيوليبراليّة العالميّة؟

 

بين مقصلة التمويل ومقصلة الهويّة الوطنيّة

يضاف إلى تعقيد المشهد الثقافيّ والسينمائيّ الفلسطينيّ ارتباطه الوثيق بشبكات الإنتاج العالميّة. في حين أثار هذا التطوّر الانتقاد على أنّه دليل على الوهن السياسيّ في هذه الحقبة، دافع آخرون عن لجوء السينمائيّين الفلسطينيّين إلى الحصول على تمويل غربيّ لإنجاز أفلامهم، حيث حذّروا من أنّ الواقع الّذي تعانيه السينما الفلسطينيّة يجعلها غير قادرة على الاستمرار دون التمويل الأجنبيّ، في ظلّ ضعف الإقبال على الأعمال السينمائيّة وضعف البنية التحتيّة في مجال السينما في الأراضي المحتلّة عام 1948 تحديدًا، كلّ ذلك كجزء من ممارسة الفلسطينيّ لهذه الهويّة المقاومة في المحافل العالميّة، الّتي تدفع إلى التساؤل عن متطلّبات هذا التمويل[3].

على العموم ومع استثناء مصر وربّما المغرب، لا يمكننا الحديث عن صناعة سينمائيّة حقيقيّة في الوطن العربيّ، إنّما ثمّة أفلام سينمائيّة تُنْتَجُ بين الحين والآخر. عندما نتحدّث عن الصناعة السينمائيّة فإنّنا نتحدّث عمليًّا عن عمليّة موسّعة تتضمّن البنية التحتيّة اللازمة من استديوهات ومعدّات ووحدات مونتاج وأفلام خام ومعامل تحميض وعدد كاف من الفنّيّين المؤهّلين، وعندما نتحدّث عن التجارة نتحدّث عن الدورة الإنتاجيّة للأفلام السينمائيّة، الّتي تمكّن الفيلم من استعادة تكاليفه مع أرباح تمكّن من إنتاج أفلام أخرى، وعن سوق الفيلم وشبكات توزيع الأفلام ودور عرض مجهّزة بشكل ملائم. ذلك كلّه يتكامل معه مناخ نقد سينمائيّ معقول وشبكة من الصحافة السينمائيّة والثقافيّة النقديّة الّتي تتابع وتواكب وتؤثّر في المنتج السينمائيّ تراكميًّا ونقديًّا.

غياب كلّ هذه المقوّمات وصعوبة العثور على تمويل للأفلام، على المستويين المحلّيّ والعربيّ، باستثناء دعم بعض مهرجانات السينما العربيّة، مثل «مهرجان أبوظبي السينمائيّ» و«مهرجان دبي السينمائيّ» و«مهرجان الدوحة السينمائيّ»، يجعل الساحة خالية من التمويل الوطنيّ ومهيّأة لاستقبال التمويل الأجنبيّ. كما يدفع عددًا من صنّاع الأفلام الفلسطينيّين العرب إلى هذا التمويل، فيقدّم خدماته في التمويل والتوزيع، ويجعل الأفلام تتحرّر من معادلة الربح والخسارة، كما يفتح الأبواب للحديث عن مواضيع جديدة أو غير متوقّعة، ويمنح للأفلام القدرة على الخروج من الإطار المحلّيّ من خلال المشاركة في أهمّ المهرجانات العالميّة وما إلى ذلك. هذا بالطبع يطرح سؤالًا جديدًا: هل يؤثّر التمويل الأجنبيّ في صياغة الرواية الفلسطينيّة؟

يذهب نقّاد كثيرون إلى أنّ جهات التمويل الأجنبيّ تبسط نفوذها سينمائيًّا في المنطقة العربيّة عبر تأسيس وتمويل شبكة من النشاطات الثقافيّة والسينمائيّة المتنوّعة والمترابطة والمتشابكة، تخدم في المحصّلة أهدافها الّتي يتعلّق بعضها بالتطبيع والتعايش مع الاحتلال الإسرائيليّ. كما تقوم بالنفاذ ثقافيًّا إلى المتلقّي العربيّ ومن قبله إلى المبدع والمثقّف العربيّ، فتشكّل بعض المؤسّسات والصناديق العربيّة الحكوميّة وشبه الحكوميّة وبعض الأفراد العاملين في الحقل محلّ الاهتمام، أذرعًا تنفيذيّة محلّيّة لخططها، وتتّسع دائرة نشاطات تلك المؤسّسات وفق خطط ممنهجة طويلة الأمد لتشمل نشاطات غير مباشرة التأثير، فهي لا تعمل على اللحظة الزمنيّة الراهنة بقدر ما تلقي ببذورها لتحصدها بعد حين، وهنا يكمن خطرها الأكبر[4].

في المقابل يصرّ البعض على أنّ المموّلين ليسوا سواسية، ولا يحملون ذات أجندة التمويل المشروط، لذا كان لا بدّ من فحص هذا الجانب، وكيف يختلف المموّل الأجنبيّ عن العربيّ، وما هي الإشكاليّات الّتي يثيرها كلا التمويلان، وهل يختلفان أصلًا عن التمويل الرسميّ الفلسطينيّ، رغم ضعفه، وهل هناك مبرّرات قويّة للجوء المخرج لصناديق التمويل الأوروبيّة والأميركيّة أو حتّى الإسرائيليّة؟

يذهب نقّاد إلى أنّ جهات التمويل الأجنبيّ تبسط نفوذها سينمائيًّا عبر تأسيس وتمويل شبكة من النشاطات الثقافيّة والسينمائيّة المتنوّعة والمترابطة والمتشابكة، تخدم في المحصّلة أهدافها الّتي يتعلّق بعضها بالتطبيع والتعايش مع الاحتلال الإسرائيليّ...

فمثلًا حاول الناقد السينمائيّ الفلسطينيّ ﺑﺷّﺎر إبراهيم تمرير فيلم «يد إلهيّة» ﻟﻠﻣﺧرج الفلسطينيّ إيليا سليمان لعرضه ضمن «مهرجان دمشق السينمائيّ الدوليّ»، لكنّه لم يفلح ﺑﺣﺟّﺔ أنّ الفيلم ﺗﻠﻘّﻰ أموالًا من الحكوﻣﺔ الإسرائيليّة أو من مموّلين إسرائيليّي الهويّة. هكذا نرى كيف أنّ ابن الناصرة، المواطن الفلسطينيّ ﻓﻲ ظلّ الدولة العبريّة وقع في إشكاليّة التمويل الّتي أﻋﺎقت ترويج فيلمه عربيًّا، علمًا أنّ اﻻﺣﺗﻔﺎء الفلسطينيّ ﻓﻲ الأراضي المحتلّة 48 وفي الأراضي المحتلّة عام 1967 ﻛﺎن مثيرًا وكبيرًا، وظهر ذﻟك ﻣن ﺧﻼل ﺷﺑّﺎك التذاكر ونسبة الحضور. ﻛﻣﺎ أنّ الاحتفاء عالميًّا بالمخرج الفلسطينيّ وبإنتاجه ﻛﺎن منقطﻊ النظير[5].

 

في أهمّيّة السينما

عملت الوسائل الإعلاميّة والثقافيّة، وخصوصًا السينما، على إبراز وتعزيز الإطار العامّ لنضال الشعب الفلسطينيّ، وذلك من خلال تبنّي قضيّته المتجدّدة بمفاهيمها الكبرى وأهمّها الارتباط بالأرض، والدفاع عن حقّ العودة وحقّ تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة، والمحافظة على الخصوصيّة الفلسطينيّة المقصود بها "الخصوصيّة الثقافيّة بأوسع معانيها وأشملها، الّتي تتأكّد من خلال الثقافة الوطنيّة، والتمسّك بها وصقلها وتجديدها، وإحياء التراث وتعليم التاريخ ونشره بعد إعادة صيانته، والحفاظ على الشخصيّة الوطنيّة"[6].

من هذه الزاوية فإنّ أهمّيّة صورة البطل المنتجة سينمائيًّا تكمن في أنّها تعكس الموقف الثقافيّ في تعزيزه ونقده لهذه الحكاية الفلسطينيّة بمفاهيما الكبرى المذكورة، وأهمّيّة ما يمثّله ويحاكيه من وحي الواقع الفلسطينيّ المعاش. تتضاعف أهمّيّة التأمّل في ’صورة البطل‘ في السينما تحديدًا إثر القفزة النوعيّة في الشكل الفنّيّ والإنتاجيّ للأفلام السينمائيّة الفلسطينيّة، وتحقيقها لإنجازات هامّة عربيًّا وعالميًّا. في سياق أعرض، يكشف لنا البحث في السينما الفلسطينيّة الجديدة عن موقع الثقافة الفلسطينيّة في شبكات إقليميّة وعالميّة، ما يغني فهمنا لإشكاليّات هذه الثقافة وتحدّياتها المتجدّدة، وعلى وجه التحديد، إشكاليّة التجاذب بين نزعتين: الأولى الحفاظ على الهويّة والذاكرة الفلسطينيّة - بحيث تكون صورة البطل نموذجنا هنا - والثانية الانتماء إلى شبكات إنتاج ثقافيّ معولمة تعيد صياغة الهويّات والذاكرة المحلّيّة بحسب منطلقات مختلفة قد تلتقي جزئيًّا أو تتعارض كلّيًّا مع النزعة الأولى.

في محاولة موضعة وتحليل ’صورة البطل‘ بين هذين النزعتين لا بدّ من محاولة الإجابة على عدد من الأسئلة المحوريّة، وهذه الإجابات أو بالأحرى محاولة تناولها تشكّل عمليًّا جوهر هذا الكتاب: أوّلًا، ما الّذي يمثّله البطل في السينما الفلسطينيّة في مرحلة نشأتها وتكوينها، ثمّ في مراحل تطوّرها اللاحقة وفي مرحلة السينما الجديدة؟ ثانيًا، هل تعاني السينما الفلسطينيّة الجديدة من ضعف في الرؤية الثقافيّة والمعرفيّة والمجتمعيّة مضافًا إلى ضعف التمويل، أو مُتسبّبًا عنه؟ ثالثًا، كيف أثّر نجاح الفيلم الفلسطينّي الجديد على المستوى الدوليّ على هويّة السينما الفلسطينيّة ورسالتها وصورة بطلها؟ رابعًا، إلى أيّ مدى يشبه حال السينما الفلسطينيّة حال الوضع الفلسطينيّ العامّ في سياق أزمة التمويل والخضوع لأجندة المموّل، وكيف يحاول المنتج والمخرج الفلسطينيّان الخروج من إشكاليّات أجندات التمويل والتطبيع وضياع الهويّة السياسيّة، وهل ينجحون في ذلك ضمن شبكات إنتاج فنّيّة معولمة لا مركزًا أو ارتباطًا اجتماعيًّا محلّيًّا لها؟ خامسًا، ما هو تأثير شبكات التمويل المعولمة - بما يشمل الإنتاج والاستقبال والمهرجانات والجوائز - على دور الفنّ والثقافة في الحقل السياسيّ الفلسطينيّ؟  كيف يؤثّر التمويل الأجنبّي على هويّة الفيلم؟ كيف يختلف التمويل الأجنبيّ عن العربيّ وعن الفلسطينيّ الرسميّ؟ كيف يتعامل المخرج والمنتج الفلسطينيّان مع كلّ تلك التحدّيات؟ 

في سياق تأمّل هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها، ينطلق الإطار التحليليّ في هذا الكتاب من فرضيّة أساسيّة مفادها أنّ فهم تطوّر السينما الفلسطينيّة الجديدة وتحوّلاتها ورسالتها السياسيّة يجب أن يحدث من خلال نظرة كلّانيّة ليست جزئيّة متعلّقة بالمضمون السياسيّ فقط. أي أنّنا لا يمكن أن نفهم ذلك المضمون دون أن نموضعه في السياق العريض الّذي يتضمّن عمليّة الإنتاج السينمائيّة في كلّ مراحلها وخطواتها العمليّة - من تمويل وإنتاج فنّيّ وتقنيّ وتوزيع واستقبال - وأن نربط بشكل تحليليّ بين الإنتاج والمضمون، لأنّ عناصر هذه العمليّات تؤثّر في بعضها البعض بشكل كبير.

 

من الثوريّ إلى الجماليّ 

انطلاقًا واستتباعًا لذلك، ولكي نفهم الوضع الراهن للسينما والثقافة الفلسطينيّة وموقع صورة البطل، فإنّه لا بدّ أيضًا من موضعة الاثنين في السياق التاريخيّ العريض، وتحديدًا تبيان العلاقة الجدليّة بين الفنّ والسياسة على النحو الّذي أُشير إليه أعلاه: من انخراط الفيلم بالعمل النضاليّ في بدايات الثورة الفلسطينيّة في الستّينيّات، إلى البحث عن استقلاليّة أو وهم الاستقلاليّة الجماليّة للحقل السينمائيّ في سياق العولمة الراهنة ومفارقة الارتباط بالتمويل، إلى عودة الوعي بشبه استحالة - انفكاك الجماليّ عن السياسيّ ومحاولات التسييس.

منهجيًّا، وللإجابة على الأسئلة الواردة أعلاه قمت بانتقاء عيّنة من الأفلام الّتي ظهرت منذ عام 2000، وأثارت جدلًا حول الفنّ والهويّة والتمويل والتطبيع، كما نالت اعترافًا دوليًّا سواءً بسبب فوزها أو ترشّحها لجوائز عالميّة، وتتضمّن العيّنة (1) «الزمن الباقي» (2009) لإيليا سليمان، (2) «عجمي» (2009) لإسكندر قبطي ويارون شاني، (3) الجنّة الآن» (2005) لهاني أبو أسعد، (4) «عمر» (2013) لهاني أبو أسعد، (5) «المرّ والرمّان» (2010) لنجوى النجّار و«3000 ليلة» (2015) لميّ المصري.

تناول الكتاب هذه الأفلام من منظور ثلاث مقاربات تحليليّة، أوّلًا: تحليل المضمون، ومن خلاله حاولت تبيان صورة البطل في السينما الفلسطينيّة ومقارنتها مع سينما البدايات الثوريّة والسينما الجديدة من خلال مشاهدة الأفلام وتحليل رسائلها المعلنة أو المتضمّنة. في سياق هذه المقاربة التحليليّة أوليت اهتمامًا أساسيًّا إلى العناصر المكوّنة للأفلام السينمائيّة، من حيث النصّ والصورة والرؤية الإخراجيّة واختيار الممثّلين وأدائهم والأبعاد النفسيّة والاجتماعيّة للبطل والعلاقات الدلاليّة في الفيلم.

ثانيًا، التحليل الشبكيّ، وهنا حاولت بالقدر المتاح، تتبّع المنتج السينمائيّ في شبكات الإنتاج والصناعة السينمائيّة والترويج والاستقبال والمهرجانات وغير ذلك من امتدادات، وذلك بهدف الكشف العمليّ عن التحدّيات الّتي تواجه هذا المنتج والقضايا الّتي يواجهها والنقاشات الّتي يثيرها.

 ثالثًا، المقابلات الشخصيّة، وأُجْرِيَتْ المقابلات مع المنخرطين في الحقل ومع ذوي الاختصاص المباشر بالموضوع. وقد اعتمد هذا الكتاب، وفي جزء كبير منه، بشكل عميّ وبحثيّ، على جمع المعلومات ورسم المشهد البحثيّ (السينمائيّ) مع مقابلات مع مخرجين وناقدين سينمائيّين وعاملين في حقل السينما. إضافة إلى ذلك اطلعت على الأدبيّات المنشورة حول موضوع السينما الفلسطينيّة وتضمّن ذلك الكتب والمقالات الأكاديميّة وما نُشِرَ في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة، في محاولة للبحث عن هويّة الفيلم الفلسطينيّ وكيف تتجلّى هذه الهويّة في صورة البطل، وإلى أيّ مدى تتشابك مع مسألة التمويل.

 


إحالات

[1] جميل هلال، «تفكّك الحقل السياسيّ الفلسطينيّ؛ غياب المركز وحضور الأطراف»، محاضرة قُدِّمَتْ في مؤتمر لمؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة ومركز مدى الكرمل، بعنوان «دور فلسطينيّي 48 ومكانتهم في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ»، تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.  

[2] علي زراقط، «السينما الفلسطينيّة... فضاء التحوّلات»، جريدة الأخبار (تاريخ الاسترجاع 9 أيلول، 2014).

[3] مقابلة  مع المخرج رشيد مشهرواي، بتاريخ 25 أيار 2014.

[4] رانية حدّاد، «التمويل والهيمنة: شبّاك التمويل الأجنبيّ والسينما»، مجلّة راديكال، العدد 21. (تاريخ الاسترجاع 25 أيار 2014).

[5] تيسير مشارقة، «جدل الهويّة والمصطلح – هويّة الفيلم السينمائيّ الفلسطينيّ الجديد"، دنيا الوطن (تاريخ الاسترجاع 23 أيار 2014).

[6] حسين العودات، السينما والقضيّة الفلسطينيّة (دمشق: دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع)، 19-20.

 


 

آلاء كراجة

 

 

 

إعلاميّة وباحثة في السينما الفلسطينيّة، قدّمت عديد البرامج التلفزيونيّة الحواريّة والاستقصائيّة الّتي تعالج قضايا اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة متنوّعة.